العناد في الحب عند أهل الصحراء..والذم الغزلي !
بالجنوب، تزخر اللهجة العامية المستخدمة ” الحسانية”، بالكثير من المفارقات والتناقضات، و وعدد من الاستعارات والكنايات والتشبيهات الفريدة وغير المعتادة، وهو ما يعمد إليه عامة أهل الصحراء لتجنب إيذاء أحد بعين غير مقصودة، و ما يستغله الرجل الصحراوي ، للتهرب من إعلان حبه وإعجابه، خاصة إذا كانت المحبوبة و من هو معجب بها، امراة معروفة لدى أصدقائه والمحيطين به، وحتى إذا كان لزاماأن يتكلم، لجا إلى المدح بما يشبه الذم..
وما تستعين به المرأة للتنفيس عن مشاعرها دون أن يحط ذلك من قدرها وهيبتها، وحتى إذا كان ولابد من التبرع على محبوبها بشيء من “الموزون”، نظمت ” تبريعة” بشرط الحفاظ على سرية هوية قائلتها أو أوسعته قدحا ظاهره فيه الذم وباطنه من قبله عشق لا يبقي ولا يذر..
ففي هذا الفضاء الناطق بالحسانية، الذي يمدح جمالك ب ” يطيرك مزينك..”، ويطرب لكلامك لدرجة تقليدك نيشان :”يطيرك..مزين أخبارك”، أو يندهش لفتنة أو فعل بعبارة ” يگلع بوك”، وبما أن أهل الصحراء معروفون بدماثة الأخلاق وحسن التربية، فالمتعارف عليه هو تأويل المستمع للكلام بشكل بديهي، وتحويل الذم المعلن إلى غزل ..
“مانك شينة”، كان من الممكن أن يوفر الرجل على نفسه عناء اللف والدوران، ويصارح حبيبته بجمالها، لكنه يفضل أن يخبرها بأنها ليست قبيحة، في مكابرة غريبة قد تختفي حالما تجمعه جلسة شعرية مع من لا يعرف بأمرها ولا بوجودها ، تراه ينظم “گيفان” الغزل، ويخوض الملاحم بكلام موزون ومقفى، غارقا في “بتوت” الشعر، يطلع ب”لبير” أو ” احويويص” و ينزل ب “بوعمران” أو “المصارع”، يتلظى بحر الحب، متأوها بين “تافلويت” وأخرى ومتحسرا ب “عگرب” أو “گدعة”..
“فيك شيطان”..”امبيليسة”، هنا وكما استعارت “حورية منت النانة” الشيطان من عمق جهنم و نيران سعير، لتتغنى به مساء” الدحميس”، جاعلة منه وكما يفعل به في ثخوم الصحراء، رمزا للفتنة والإثارة والحب والجاذبية العظمى، يستعيره الرجل الصحراوي للتغني بجمال حبيبته، ملبسا إياها جريمة ايقاظ الشيطان في دواخله، ومسبغا عليها أقصى صفات الجمال ” مبيليسة”، دون أن يتخلص من عناده ومكابرته، ودون الحاجة ل”اتنسوي” يقلل من رجولته..
الشيطان بالصحراء ليس هو ذاك المعروف في باقي بقاع الأرض،فعندما يعجز أهل الصحراء عن وصف جمال المحبوب، ولا يجدون تفسيرا لتعلقهم وشدة إعجابهم، يزجون ب”ابليس” والشيطان في المعركة الحامية الوطيس بين القلب والعقل، ليفسروا القوة الفاتنة التي لا يعرف لها مصدرا، كما وصفت إحداهن حبيبها في تبريعة تاريخية بان له ابتسامة فاتنة ضرب فيها ابليس أعواد خيمته :
عندوتبسيمة **** بانِ فيها بليس خويمة
والرجل أيضا يستعمل ابليس لتفسير ما يعجز عن إيجاد سبب له فيقول:
راصَك يا اغل غيد النيل ***** ماج من عند الراصكْبَيْل
وكلامك خاسَر وكْلييل **** والتَّوتِي تَحْصيلْ لْحَاصَلْ
غير الاَّ يا سَبَّتْ لَكِتيلْ ***** يكطعببليس أثرو فاصل
فمنادم راسو ماه طويل **** و كلامُ ماهُ مَتْفاصَل
حيث يرمي محبوبته بشتى صنوف الذم، إن لم نقل السب، فشعرها لا علاقه تربط بينه وبين الجمال، وكلامها قليل وغير مفهوم، لكنها سبب مقتله “سبت لكتيل” ، فقد يكون إبليس بحاجة ماسة إلى امراة “راسها”- أي شعرها- ليس طويلا وكلامها ليس “متفاصل” أي غير مفهوم. من الصعب أن تفهم أنه غزل لكنه نمط شعر معروف ب ” المگفي” أو “المقفي”، أي الذي يفهم من قفاه، بعكس معناه..
وهو نفس ما نهجه شاعر لوصف شدة الوله، ومدى عشقه لحبيبته قائلا:
أملط ذا اللي حبو يضغط ****واگصيرراصو وامرط
بالي وزويمك من لبطط **** وأنا من عزة تخراصو
ما نبغي ماهو حد أملط **** وللا حد اگصيرراصو
من كان ليحزر ان هذا “الگاف” المتخم بالذم الظاهر فيه غزل باطن؟ ، فالرجل هنا يصف أولا، محبوبته التي لا تملك حاجبين ولا رموشا “املط” ، ذات الشعر القصير وتمددات الجلد الظاهرة، قبل أن يعلن عن حبه لإدامة النظر إليها، وأنه لن يحب إلا شخصا “أملط” و قصير الشعر..
لكن ما يفوق هذا وذاك عجبا، هو ما نظمه أحدهم سائلاحبيبته :
گولي لي راجل جاك ****شيدوّر هُوّ ذاك؟
انت مانك هاك **** أمراةگاعْاسْمينة
وأوْعَرْ من شيمَلْگاك ****وادْخَيْنةواشوينة
ورْوَيْصكالـمْشكْرَد **** حَدّو لك الوْذينة
وفيمك كل بْلد **** منُّو فيه اسنينة
الدخان الرمادي “ادخينة” وقبيحة “اشوينة”- والتصغير إمعانا في الذم- والراص هنا يعني الشعر، وهو أشعث وخشن “مشكرد”، قصير حده الأذن، كما أن لها فلجة ، مما حذا به إلى التفنن في ذمها، واصفا فمها بأن به اسنانا متناثرة، ما بين سن وآخر توجد مسافة وبراح، “كل بلد” فيه “اسنينة”..
لكن “خلاگ” المراة الصحراوية الواسع، يجعلك تعيد النظر عندما تقابل مثل هذه الأبيات المتحرشة بابتسامة واثقة و هادئة، تطير ما تبقى من أبراج عقل الرجل، فهي ككل أهل الصحراء، لاتأخذبالظاهر، بل تعكس ما قيل لتحصل على المقصود..
للإشارة فقط، فالرجل قد “يجحد” مشاعره إذا كانت علاقته بالمعنية بالامر معروفة، زوجة او خطيبة، ويفضل مشاكستها باستخدام أساليب التعبير الشائعة في الأدب الشعبي الحساني التي تغلب عليها التناقضات والمفارقات ، لكنه لا يجد حرجا في التغني الصريح بجمال امراة مجهولة، وحتى إذا كان مرتبطا فسيستعيرأسماء ك: “الريم” و”العراض” و”غلانة” بدل التصريح باسم حبيبته..
شفت اگبيلافلمكيل****اطفيلةيالجليل
تمدغ مسواك اتيل****اجديد اخضر مزال
تسدر فمســـــــييل****تتنيمش فثر اغزال
گيملي ذاك احزيم**** من اخلاگي مازال
ذاك امنيزل للريم **** كنت أنا لو نزال
أو يعمد للتعميم هربا من الحرج، كما فعل أحدهم عندما قال:
نعرف حد الــى بَعـَّد **** يتوحش حد اصلو يبغيه
يغير آنا ما نعرف حد **** يتوحش حد ايراعى فيه